Home |  Elder Rights |  Health |  Pension Watch |  Rural Aging |  Armed Conflict |  Aging Watch at the UN  

  SEARCH SUBSCRIBE  
 

Mission  |  Contact Us  |  Internships  |    

        

 

 

 

 

 

 

 

 



آه.. وآه مـــن سـنــــوات الظــــــلام هل تعرف ماذا تخبئ لك الأيام القادمة؟

أحمد ناصر- الخليج

2 سبتمبر 2008

الكويت

 

هل جربت يوما أن تجلس وحدك وتحدّث الظلام أو تداعب الحائط المغبرّ وسط أصوات الصراصير المزعج، وتتذكر أيامك السابقة وحياتك التي مضت.. ثم تنظر إلى الباب الخشبي أمامك، وتقول لنفسك «ليت أحدا يطرق هذا الباب ويدخل علي!!» ولكن من دون فائدة.. لتعود في نهاية الأمر إلى فراشك المتآكل وتحدق مرة أخرى في الظلام تنتظر يوما آخر من الوحدة؟ اقرأ معي هذا التحقيق لتتعرف على أمهات وآباء يعيشون وحيدين في المنزل، ينتظرون واحدا من أبنائهم الذين أفنوا حياتهم في خدمتهم وتربيتهم ورعايتهم لعلهم يقومون بزيارتهم ولو للحظة واحدة.. ولكن من دون فائدة! إنها حقا سنوات الظلام في حياة هؤلاء الكبار.

ظلت يومين ميتة في منزلها القديم من دون أن يعرف أحد عنها أي شيء إلى أن اكتشفتها الخادمة بعد أن عادت من قضاء ليلتين في الخارج برفقة سائق المنزل، ولا يعلم أحد من أبنائها شيئا عنها، حتى ابنها الأكبر الذي اتصلت به الخادمة وصل إليها بعد ساعة كاملة بعد أن نقلها رجال الإسعاف إلى المستشفى. حتى في موتها لم يزرها أبناؤها
الأربعة ولا بناتها الثلاث.

أثار هذا الخبر الإنساني فضولي الصحفي فبحثت عن خيط يوصلني إلى عجوز يلفها الظلام أو أم تشكو الوحدة أو مسن يعيش لوحده. لم يستغرق بحثي طويلا وهو ما استغربته بالفعل، حيث دلني أحد الأصدقاء على جارة له تقول والدته إنها لم تر أبناءها منذ أكثر من سنتين (!). أجريت تحرياتي الصحفية واستطعت الحصول على موافقتها لزيارتها برفقة زوجتي وإحدى صديقاتها

توقفت عند الباب الخارجي للمنزل أنظر إليه طويلا لأن صديقي قال إنهم كانوا يسمون هذا المنزل «القصر» عندما كانوا صغارا لجماله وروعته

كان الظلام يلف المنزل مع أننا كنا قبيل المغرب، والغبار يعلو كل شيء فيه. طرقنا الباب فلم يجبنا أحد، فعلمنا أن الخادمة على فرض وجودها غير متواجدة، دخلنا الصالة الكبيرة التي كان يبدو واضحا عليها القدم ثم عرجنا ناحية اليمين بعد أن سمعنا صوت التلفزيون.. كان الصوت يخرج من غرفة في جانب الصالة. طرقنا الباب الخشبي فسمعنا صوتا خفيفا بدا عليه الإرهاق والسكون والهدوء إلى أبعد الحدود والفرح في الوقت نفسه «منو.. حصة؟» دخلت زوجتي وصديقتها وبقيت في الصالة احتراما لحرمة السيدة وخصوصيتها، بعد دقائق قليلة دعتني زوجتي للدخول.. لا أريد أن أصف منظر الغرفة والعجوز.. والوحدة التي كانت تعيشها

سألتها عن أبنائها، فكأنني أعدتها مع سؤالي إلى الوراء عشرين سنة، كان جوابها كافيا لأعرف مدى المعاناة التي كانت تشعر بها، قالت لي كلمتين فقط «آآه.. عيالي؟». 

أعدت عليها السؤال لأنني أريد أن أكتب شيئا من كلامها، فقالت إن آخر مرة شاهدت واحدا منهم قبل سنتين. صرخنا جميعا بصوت واحد «ماذا؟! سنتان» هل يمكن أن يترك أحد والدته العجوز سنتين لوحدها من دون أن يسأل عنها، إنها مأساة إنسانية، هذه المرأة تحتاج من يرعاها ويهتم بشؤونها، بعد أن بلغت هذه السن.

لم أغص في آلام كلماتها طويلا حيث أخرجتني منها بقولها «أذكر زارتني حصة قبل سنتين وأعطتني جواز الخادمة وقالت إنها ستذهب لتأتي بها، دخلت علي الخدامة ولكنني لم أر حصة منذ ذلك الوقت».

• ومن يعطي الخدامة معاشها وراتبها الشهري؟

ـــ لدي حسابي الخاص.. أعطيها البطاقة وتأخذ معاشها ثم تعيدها إلي

• هل تضمنين أنها لا تسرق منها شيئا؟

ـــ جاءني موظف - الله يرحم والديه - من البنك وتأكد من أنني أعطيتها البطاقة، ثم طمأنني بأنه سيشرف بنفسه على سحب معاش الخدامة

• هل سألك عن أبنائك أو أحدا من أهلك؟

ـــ لا.

أدارت العجوز ظهرها لنا واستدارت على الكنبة الرمادية التي تجلس عليها، وخرجت من الغرفة دون أي تردد، لأنها غرقت في دموعها التي يبدو أنها جفت من كثرة بكائها، وتركت مهمة تهدئتها لزوجتي وصديقتها. وعلمت بعد ذلك انها قالت لهما «لا أدري لماذا لا يأتي أبنائي لزيارتي.. كنت بارة بهم إلى أبعد الحدود

أغلقت باب البيت.. فشعرت وكأنني أغلق غلاف كتاب عليها، لتعود مرة أخرى إلى الظلام الذي أصبح أنيسها الوحيد بعد حياة حافلة بالعطاء.

استعباد؟

استطعت الوصول إلى أحد أبنائها، اسمه عبدالعزيز.. مراقب في إحدى الوزارات، شاب وسيم ومثقف ويحمل مؤهلا علميا، دائم الابتسامة وذو شخصية جذابة

لم أتوقعه بهذه الصورة.. كنت أظنه رجلا قبيح الوجه مهموما، ترددت في سؤاله عن والدته، إذ ليس من عادتنا في الكويت التحدث في هذا الموضوع مع الغرباء، ولكن الشرف الصحفي دفعني دفعا لأسأله عن آخر مرة رأى فيها والدته.

توقعت أن تتغير ابتسامته ويكفهر وجهه، ولكنه بدا لي سعيدا وقال بعد أن رشف من فنجانه الفاخر جدا «أمي شكت لك الحال، أعتقد إنها خلاص خرفت».

كأنه صفعني على وجهي.. كيف يتجرأ على والدته بهذه الطريقة القبيحة؟

• لا والدتك لم تخرف، التقيتها وكانت في كامل عقلها، كيف تتركونها هكذا بلا معين ولا أنيس؟

ـــ خلاص راح نكلم لها معين شريف أو نجمع لها مقالات أنيس منصور علشان تتسلى فيها (ضحك وكأنه قال نكتة).

• بالله عليك.. هل هي والدتك حقا؟

ـــ نعم.. صدقني ليس لدي وقت لأزورها، يعني لإنها ولدتني تملكني وتستعبدني!!

خرجت من عنده وأنا أضرب كفا بكف، وقررت أن أجلس مع إحدى بناتها لأستمع إلى رأيها في هذا الموضوع، وأنا أسأل نفسي: هل يمكن أن تكون البنت مثل الولد في هذا الموضوع؟

وصلت إليها بسهولة.. وساعدتني الظروف أن زميلتها في المدرسة ابنة عمي، فساعدتني على التحدث معها. لم أجد في كلامها ما يستحق النشر، لأنها لم تختلف كثيرا عن أخيها سوى أنها تذكرت أنها استلفت منها ثلاثين دينارا قبل سنوات ولم تعدها إليها، وقالت إنها دين في رقبتها ولا تستطيع أن تهرب منه «والله ما يرضى ما ندفع الدين» ولك التعليق عزيزي القارئ على هذه الجملة

لم تشجعني الفتاة التي التقيتها على أن أقابل حصة البنت الصغرى للعجوز، فبحثت عن حالة أخرى شبيهة بها.

غترة متحجرة

مرت بي الأيام وأنا أفكر في تلك العجوز المسكينة، خاصة بعد أن علمت بأنها رفضت الذهاب إلى دار كبار السن (كنا نسميها في السابق العجزة) التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. جلست في أحد المقاهي التراثية في السوق القديم، كان يجلس في طرف الكرسي رجل مسن أعتقد أنه تجاوز الثمانين من عمره، يحمل في يده عصا كأنها تشكو إلى من يراها طول عمره، ويرتدي دشداشة لم تغادر جسده المتعب المتهالك منذ أكثر من ثلاثين سنة حتى غدت كأنها جزء من لونه وهو جزء منها، ويغطي رأسه بغترة عشش فيها الغبار وفرخ فيها العنكبوت لو حركها أحد لتكسرت أطرافها من كثرة العرق فيها

سألت الجرسون عن هويته فأجابني: إنه شيخ كبير كويتي، يجلس وينام في هذا المكان، مضى عليه أكثر من سنة، لا أعرف عنه أي شيء سوى أنه يمتلك بيتا في إحدى المناطق القريبة (يقصد العاصمة

جلست بجانبه، لكني لم أشأ أن أوقظه من نومه.. كان ينام بعمق وكأنه في سريره المترف مع أنه كان يرقد على مقعد خشبي، يبدو أنه اعتاد عليه، ففضلت أن أتركه يرتاح وأعود إليه مرة أخرى.

في اليوم التالي جلست معه، رجل يحمل في قلبه أحداث سنوات طويلة عمرها 78 عاما، لديه أربعة أولاد ذكور وبنت واحدة، توفيت زوجته قبل عشر سنين.. ومنذ ذلك الوقت وهو بين هذا المقهى ومنزله القديم، فاجأني بقوله: «البيت لم يعد مثل قبل، أم فلان كانت تملؤه.. أما الآن فأصبح مكانا للحشرات وأهل الأرض (يعني الجن) فكيف تريدني أن أعيش فيه

رحب بي كثيرا على غير ما توقعت، وطلب لي شايا على حسابه الخاص. اعتدل في جلسته وحاول تحريك غترته ولكنه لم يفعل لأنه يعلم عاقبة ذلك من الغبار، وعندما سألته عن أولاده سكت.. كأنه يعود بالذاكرة إلى الوراء، كنت كمن سأله عن ماض بعيد. ثم أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى وقال بصوت متهدج متكسر متحشرج متقطع: «الله يوفقهم وين ما كانوا» ثم بكى، قطّع قلبي كثيرا ببكائه

طلبت منه أن ينسى الموضوع، ولكنه قال لي إنه يشعر بمتعة عندما يتذكر أيامهم معه، فسألته «أين هم الآن، هل تراهم أم لا؟

قال: «مضى أكثر من سنتين لم أرهم، آخر مرة رأيتهم فيها عندما كنت في المستشفى، سقطت من الكرسي فحملني بعض الشباب هنا إلى المستشفى واتصلوا بهم فجاءني ابني الأصغر ثم ابنتي، لا أعلم كيف وصلوا إليهم.. وعندما سألت عن البقية قالوا إنهم اتصلوا بهم وطمأنوهم علي. هنا علمت للأسف إنهم جاءوا ليعرفوا هل توقف قلبي ومت أم ما أزال حيا

ثم عاد إلى البكاء.. يا لقلب هذا الشيخ الكبير كيف يرق لأبنائه وهم لا. 

• لماذا تنام في المقهى.. لماذا لا تذهب إلى البيت؟

ـــ لأنني كرهت البيت، إذا ذهبت إليه أبقى فيه وحيدا لا استطيع أن أتحدث مع أحد، يصير الليل علي مضاعفا كأن ليس له آخر، كنت أبقى ساعات طويلة أنتظر بزوغ الفجر، صدقني كان أذان الفجر عندي أجمل من أي صوت آخر، هل تعلم أنني أظل أحيانا مستيقظا طوال الليل خائفا من الظلام؟

كسر قلبي بهذه الكلمات، فطلبت منه رقم هاتف ابنه الأكبر لعلي أستطيع أن أتحدث معه في الموضوع وأقنعه بضرورة زيارة والده، فأخرج لي هاتفا نقالا من جيبه المتهالك، وقال إنه موجود فيه.

اتصلت به وحاولت أن أتحدث معه فلم يعرني أي اهتمام، وبادرني «أدري ستسألني عن والدي.. أرجوك لا تتدخل في ما لا يعنيك، دع الشايب واتركه بحاله»، وعلمت أن الكثير من الناس اتصلوا به قبلي

قلت له إنني صحفي وأحب أن أعرف وجهة نظره ما دام مقتنعا بها، ولكنه اختصر لي الموضوع بكلمتين لا أعرف كيف خرجتا منه «نحن ننتظر يومه.. دعه ينام براحة وهدوء لو سمحت

مشاغل الحياة

أغلقت الهاتف وأنا أتوقع الحصول على المزيد من الرجال والنساء الذين يعيشون في سنوات الظلام، وإن كنت لا أتمنى ذلك، ومن عادتي إذا كان لدي تحقيق صحفي أن أقوم بزيارة الدواوين وأطرح الموضوع، لأحصل على المساعدة والعون في البحث. وكانت المفاجأة أنني وجدت الكثير من هؤلاء الكبار في السن الذين يعيشون في الظلام، وحيدين.. كأنهم غرباء عن الناس، أفنوا أعمارهم من أجل أبنائهم، ولم يجدوا منهم سوى الصد والهجران بحجة أنهم مشغولون بأمور الحياة.

كل الذين قابلتهم ليست لديهم مشاكل أسرية، ولكن الحياة أخذت أبناءهم في خضمها، فلم يعودوا يعبأون بوالديهم، بل إن أحد الأبناء أجابني بأنه «ينسى أن يزور والدته من كثرة أشغاله». وعندما سألته متى رآها آخر مرة قال مطئطئا رأسه «قبل سنة ونصف»، لذلك فضلت أن لا أتحدث مع الأبناء حول هذا الموضوع، لأنه لا توجد لديهم إجابة سوى مشاغل الحياة، ففضلت أن أتحدث مع الكبار الذين يعيشون المأساة والمشكلة.

في إحدى المناطق البعيدة التقيت بإحدى السيدات الكريمات.. عجوز تجاوزت السبعين من عمرها، تعيش وحيدة في غرفة صغيرة ضمن البيت العود للعائلة

مضى عليها أكثر من أربع سنوات تقريبا حسب ما تتذكر لم تر أبناءها وبناتها ولم تسمع صوتهم، لا تعرف عنهم أي شيء، لدرجة أنها لا تعرف إذا كانوا في الكويت أم لا، أحياء أم أموات!

لا تعرف في الحياة سوى فاطمة، وهي سيدة فاضلة موظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، تسكن بالقرب منها وتمر عليها مرة واحدة في اليوم تتفقد أحوالها وتشرف على صحتها وطعامها، وإذا سافرت تطلب من إحدى صديقاتها أن تقوم بهذه المهمة الإنسانية

رفضت كل محاولاتي لأنشر صورتها أو اسمها بالكامل ليبقى شاهدا للقراء على إنسانيتها وكرم أخلاقها، واكتفت باسمها ومقرعملها لأنه - كما قالت - يوجد أربع فاطمات هناك.

• كيف عرفت بوجودها في المنزل؟

ـــ أحد أصدقاء زوجي أخبره بأن خادمته كانت تأخذ الطعام خلسة إلى البيت الملاصق لهم، في البداية اعتقد أنها تكذب، ولكن بعد التحري اكتشف وجود المرأة. حاول الوصول إلى أهلها، لكنها لا تعرف عنهم شيئا. وعندما نجح في الوصول إلى أحدهم بطريقته الخاصة رفض الابن «العاق» أن يذهب لأن أمه كما قال لا تسمع الكلام ولا تريد أن تبيع المنزل الكبير القديم وتعيش مع أحدهم (!) وعندما أخبرني زوجي بالموضوع زرتها، ومن اللحظة الأولى التي رأيتها فيها قررت أن أزورها يوميا لأرعاها

عمي.. صم

وتابعت والدموع تغرق عينيها

- توفيت والدتي قبل عدة سنوات، ما أزال أعيش ذكراها.. كنا جميعا أوفياء وبارين بها ولله الحمد، وعندما توفيت عرفنا أهمية وجودها بيننا، والقيمة الاجتماعية التي تحملها. وعندما رأيت هذه المرأة رثيت لحال أبنائها الذين لا يعرفون ولا يقدرون قيمة هذه الثروة الإنسانية الاجتماعيية والكنز الغالي الذي رزقهم الله إياه، سيعلمون بعد رحيلها - إذا علموا برحيلها - أنهم كانوا عميا وصما

وختمت كلامها بعد أن مسحت دموعها: «كانت تقول لي دائما ياابنتي تعوذي بالله من سنوات الظلام، فإنها سنين قاسية.. هذه التي أعيشها أنا وكثير من كبار السن مثلي هذه الأيام. 


More Information on World Elder Rights Issues 


Copyright © Global Action on Aging
Terms of Use  |  Privacy Policy  |  Contact Us