حين كنا نحوم حول بناء هائل
ابتسام البطي- الوقت
09
فبراير 2009
البحرين
جلست في الزاوية المقابلة له. بدا مني فضول تجاهه. أن تجلس في مكان تمارس الكتابة من دون أي اعتبار لحميمية الكتابة.
عندما كنا صغاراً كنا نحوم حول بيت بن مطر. تأخذني الذاكرة مع أطفال الفريج. كنا نحوم حول ذلك البيت نلعب في تلك الشرفات. لم أنس تلك الحكايات التي تتغني بها جدتي عن ذلك المكان الكبير العملاق في أعيننا ولم نكن لنرى يوماً أنه سيظل جزءاً من بقايا التراث في المحرق.
كم كنت سعيدة يا جدتي عندما تطرزين الكلمات وتروينها عن بيت قد احتل منك مساحة ليست بصغيرة تسعدين عندما تحكينها علينا. أدركت الآن تماماً عمق هذا البيت في قلبك وأنا أنظر إلى هذا المبنى من الجهة المقابلة.
أخذني عبق التاريخ المبطن في جدرانه وكأني أسمع صراخنا وقهقهاتنا، ونحن نلعب في زوايا هذا البيت كنا ننشد ونتغنى بتراثنا. كان صدى صوتنا الذي مازال باقيا في هذا الصرح.
يا محرق إنك غنية برموزك الذين تركوا بصماتهم التي مازال أثرها في القلوب وفي الذاكرة، كما أنك عتيقة بتراثك وصروحك وهي صامدة.
ذاكرة المكان قد تمر أمام عيني كشريط وعلى مسمعي كموسيقى من جدتي، ومن أم إبراهيم التي تدمع عيناها كلما تذكرت ذلك المكان الذي عاشت فيه. كان يحلو لها بيت سلمان بن مطر. كان مرتع لتجار اللؤلؤ (الطواويش) والنواخذة يبحثون عن أجود أنواع اللؤلؤ عند التاجر سلمان بن مطر.
احتوى البيت على غرفتين كبيرتين في الطابق الأول بينهما باب وتحيطهما النوافذ من جميع الجهات. نصعد إليه من سلم ضيق، نتفاجأ باتساع المكان عندما نصعد إلى أعلى جزء ونترنح بتلك الشرفات التي تحيط بتلك الغرفتين وتزدان من الخارج بالنوافذ الخشبية المقوّسة التي تعلوها الزجاجات الملونة بالألوان الزاهية مثل الأحمر والأخضر والأزرق حيث تضيف جمالا باهيا ببيت يطغى عليه اللون الأبيض كما تصفها أم إبراهيم. تشع منها إلى الداخل أشعة الشمس التي تمتزج مع الزجاج الملون. تصف أم إبراهيم المكان داخل الغرفتين وتضيف: ترى كراسيا مصنوعة من (السيم) والجريد ولكنها فاخرة مرصوصة حول الغرفة، شكلها يبهر. ازدان المكان بهذه الكراسي وهناك طاولتان كبيرتان تستخدمان للأعراس مرصوصتان بين الكراسي. أما الغرفة الثانية فتسمع صدى الصوت فيها: فهي خالية من الأثاث مليئة بالذاكرة، ذاكرة الطواويش الذين ينتقون أجود أنواع اللؤلؤ من التاجر المعروف بذلك الوقت سلمان بن مطر.
في الطابق الأرضي من هذا البيت يوجد مخزن كبير يستوعب كميات كبيرة من الحبال، الأشرعة، الأخشاب (الدنجل)، وحاجيات الغوص. إذ كان النواخذة يبتاعون أدوات السفن أمام المنزل.
كان في الجزء الشمالي من البيت بحر عجيجة (عيية). تنفق الأسماك من شدة البرد في هذا البحر أحياناً. كما يوجد بئر ارتوازي في بحر عجيجة (موقع إسالة المياه حالياً/ خزان الماء سابقاً) ومن جهة الشرق بحر عامر الذي يمثل (مستشفى الهلال حالياً). كما توجد عين تنسب إلى عائلة بن مطر تسمى عين سلمان بن مطر خاصة بهم.
غرشة فيه، دوة فيه
ولا أنسى تلك القصص التي سمعتها عن العيادة الشاملة الحكومية. في الطابق الأرضي وكان يطلق عليها اسم مستوصف (عيسو الدختر) الذي كان يشغله الدكتور بندركار (هندي الجنسية) إذ كان يعالج جميع الأمراض ومازال كبار السن يقارنون بين علاج الماضي والحاضر إذ أن المريض ليحصل على أي دواء لابد من إحضار معه زجاجة من البيت إذ اشتهر هذا الطبيب بكلمة (غرشة في، دوه في) أي إذا أحضرت معك زجاجة لتعبئة الدواء سيقوم بعلاجك.
كيف كانت ثقة الناس في ذلك الطبيب الذي كان يعالج المرضى بصدق وحميمية؟ إذ أطلق علية اسم (عيسو الدختر) لصلته بالمسلمين كما يشاع. وإذ مات بالبحرين لا بد أن دفن بمقبرة المسلمين.
أحب ذلك الطبيب الناس وارتبط بهم وارتبط المكان به وسمي بيت بن مطر (دختر عيسوه) كما يطلق علية بالعامية أي عيادة أو مستوصف الدكتور عيسى. كان مساعداه من أهل المحرق: النرس (أي الممرض) حبيب والنرس محمد، كما كان يطلق عليهم من قبل المرضى. كانت عيادة حكومية شاملة يتردد عليها المرضى من كل صوب وحدب وبقت العيادة فوق العشرين سنة كما تقول أم إبراهيم.
مازال المكان يحتفظ بذاكرة الطواويش وتجار اللؤلؤ والنواخذة كما يحتفظ بذاكرة (عيسوه الدختر). وبعدها همد المكان بعد أن كان يعج بتجار اللؤلؤ بالطابق الأول والعيادة بالطابق الأرضي وبالنواخذة والغواويص الذين يبتاعون الحبال والأخشاب وكل ما يخص السفن.
لا تنسى أم إبراهيم جزءا آخر في البيت، الحظيرة (الحوطة) إذ تربي فيها إحدى بنات سلمان بن مطر البقر والدواجن وفي هذه (الحوطة) توجد حجرة صغيرة يخزن فيها التمر ومكبسة للدبس. وكان أصحاب البيت لا يبيعون الحليب وإنما كانوا يوزعونه على أهل الفريج إذا زاد عن حاجتهم.
منيرة بنت سلمان بن مطر صبغت المكان بصبغتها إذ تمثل حقبة أخرى من هذا المكان، إذ عاشت في البيت بعد وفاة أبيها. قامت بتعديل المكان وأضافت الحمامات إلى الحجرتين الكبيرتين وأضافت المساند المطرزة إلى ذلك المكان. وكانت رحمها الله تضع بين الحجرتين في فصل الشتاء حاجزا يسمى (الباسط) من الخشب ليسد المنفذ إلى الغرفة الثانية ليدفئ المكان لكثرة النوافذ فيه. كما أضافت حجرة تطل على البحر من الجهة الشمالية كما تروي أم إبراهيم لكي يتسنى لها مشاهدة البحر والناس لكي تستأنس بهم وتطرد الملل من وحشة المكان كونها وحيدة به. كما تم بناء الجزء الشمالي إذ قام عمها ببناء بيت أكبر يحتوي على سبع غرف بعد وفاة سلمان بن مطر تاجر اللؤلؤ.
في السبعينات شغل هذا المكان جمعية الإصلاح (حينها نادي الإصلاح) فاختلطت ذاكرة المكان بين أحقاب متنوعة الخبرات، واحتفظ المكان بذاكرة ممزوجة بكثير الفرح والألم والتجارة والثقافة. كان بيت بن مطر ذا أوجه عدة وخبرات عميقة، وجوده يترك الأثر في الكثير من الناس الذين تعاملوا معه عن سابق خبرة به سواء كانت بزيارة طبيب أم بلقاء ثقافي. وتذكر النواخذة والغاصة ومن يبتاع حاجيات الغوص ومن عاش في هذا البيت ودارت ذاكرته في جدرانه، حتى الأطفال كان لهم نصيب عندما كان أطلالاً يلعبون فيه ويختبئون فيه ويشاهدون طير البوم الذي كان يعشش فيه.
لا يملك القلم إلا التعبير. لا أعرف لماذا أغراني هذا المبنى لكي أفتش عمّا بذاكرتي عنه. مازال البيت صامداً وصامتاً مذهولاً بالتراب الذي عليه.
ذاكرة هذا المكان قد تكون مرتبطة ببعض من الناس قد لا يعرفهم البعض الآخر. قد يحتل لدى البعض مساحة تمثل الكثير، وجزءا لا ينتسى. هكذا كانت أم إبراهيم.
لم أكن أخطط للأمر تماماً وها أنا قد فعلت. هكذا أنهي كتابتي وهي تصهل في داخلي بما لا يرتضيه منطق، فتشهق خيول الشوق لتلك الحجرات التي ازدانت بصوت قهقهاتنا الطفولية.
More Information on World Health Issues
Copyright © Global Action on Aging
Terms of Use |
Privacy Policy | Contact
Us
|