التلوث يؤرق حياة سكان آسفي المغربية
آسفي (المغرب) - من سعيد رحيم
على حصير بوسط مسجد صغير
في محيط معمل الإسمنت بدوار أولاد إبراهيم بمنطقة ويرس التابعة لإقليم
آسفي٬ حيث تنبعث رائحة أجواء جافة تسبب ضيقا خفيفا في التنفس٬ جلس ثلة من
كبار السن بينهم شاب في العشرينيات من العمر يتبادلون أطراف الحديث عن
أحوالهم الصحية والمادية ومعاناتهم البيئية٬ التي زعموا أنها ناجمة عن
مداخن المعمل المجاور.
فعند
الاقتراب لعشرات الأمتار من معمل الإسمنت الواقع على بعد نحو 35 كلم شمال
آسفي عبر الطريق المؤدية إلى جماعة حد احرارة٬ حيث تنعرج الطريق غربا نحو
المسلك الضيق٬ الذي بني على مسافة نحو 11 كلم إبان فترة الحماية الفرنسية٬
يشعر الزائر لأول مرة بنفحة من أجواء مغبرة مخالفة للأجواء الرطبة
المعتادة في مثل هذا الفصل بالبادية.
في
هذا المكان٬ الذي يبدو أنه بني دون تصميم٬ وبينما انهمك إمام المسجد٬ عصر
هذا اليوم٬ في إعداد الشاي بماء له طعم أقرب إلى الملوحة٬ صبه من برميل
بلاستيكي متوسط الحجم٬ قال "أحمد. ح"٬ وهو شيخ مسن في عقده الثامن من
مواليد المنطقة أنه فقد قبل نحو سنتين عينه اليمنى بسبب اقتحام مقلته درة
من مادة محترقة منبعثة من مداخن المصنع.
وليثبت
ادعاءه٬ أزاح أحمد نظارتيه السوداويتين عن عينيه فإذا بالعين اليمنى
مستأصلة وجفنيه مقفلتين في جمجمة نحيفة ذات بشرة داكنة نال منها توالي
فصول السنة. وتابع بصوت أجش أنه اهتدى٬ بعد شهور من فشل الأدوية في
العلاج٬ بنصيحة الطبيب المختص الذي أقنعه بضرورة استئصال العين اليمنى٬
حتى لا تنتقل العدوى إلى العين اليسرى.
ويعزو
أحمد٬ وقد ضعفت لديه٬ في نفس الآن حاسة السمع٬ سبب عاهته هذه٬ التي
سترافقه بقية حياته٬ إلى الدخان والغبار المنبعث من مداخن المعمل المجاور٬
لكنه لا يتوفر على شهادة "إثبات الضرر".
فأفران
معمل التابع للشركة الإيطالية الأم تشتغل٬ منذ إنشائها في سنة 1991
بنفايات قابلة للاحتراق من بينها قطع العجلات المطاطية٬ التي يتم
استيرادها بطرق قانونية من أوروبا عبر ميناء آسفي٬ لاستعمالها في استخلاص
مادة الإسمنت.
وهذه
القطع المطاطية٬ التي تتساقط عند نقلها على متن شاحنات من الميناء إلى
المعمل وتمكث لأيام منتشرة على الطريق الرابط بين الموقعين٬ أثارت في أكثر
من مناسبة٬ جدلا بيئيا واسعا في الأوساط الإعلامية الوطنية والجهوية وبين
المسؤولين والمنتخبين والساكنة المجاورة.
وينصب
هذا الجدل بصورة أساسية على موضوع التلوث وما يلفه من احتمال تورط هذه
المنشأة الصناعية أو غيرها في إحداثه بالمنطقة. كما يعكس٬ في ذات الوقت٬
جزء من المنظومة الحقوقية المتمثلة أساسا في حق المواطن في التنمية
المستدامة وحقه كذلك في العيش في بيئة سليمة٬ طبقا لمنطوق الدستور الجديد.
فعلاوة
على الحالة التي زعم فيها أحمد أن معمل الإسمنت تسبب في استئصال عينه
اليمنى أدلى "ح. عبد القادر" (50سنة)٬ وهو أيضا من الساكنة الأصلية لمنطقة
ويرس٬ بعدد من الوثائق تتعلق بشكايات تم رفعها من قبل بعض سكان الدوار إلى
السلطات العمومية بالإقليم وإلى الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بشأن
ما لحق بهم من أضرار.
وقال
في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن هذه الشكايات التي تتعلق
بالأضرار المادية التي لحقت بمجموعة من ساكنة الدوار على مستوى صحة العيون
والأذنين والصدر والفلاحة والمراعي والماشية والبيئة ٬ "بقيت دون رد".
غير
أن أصحاب هذه الشكايات٬ كما هو الحال بالنسبة لأحمد٬ لا يتوفرون على شهادة
إثبات الضرر٬ التي يتم إنجازها من قبل مختبر مستقل. وتعتبر هذه الشهادة ٬
حسب محمد كبناني محامي بهيئة آسفي٬ سندا قانونيا يخول لصاحبه الاستفادة من
الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم٬ في نوازل مماثلة.
فسكان
دوار أولاد إبراهيم الواقع على الربوة المحادية للمصنع والمتكون من بضعة
عشرات من المنازل يضطرون إلى قطع مسافة 11 كلم للتنقل إلى أقرب مستوصف
بجماعة حد احرارة لتلقي العلاجات الأولية ولم يستفيدوا لمدة طويلة من
الزمن من خدمات القوافل الطبية التي قد يعرفها الإقليم بين الفينة والأخرى.
ولهذا
السبب فهم لا يجدون غضاضة في توجيه اللوم ضمنيا لعلاقة التنمية القائمة
بثقافة محيطهم البيئي والاجتماعي. ونفس الأمر بالنسبة لعلاقة المقاولة
بهذا المحيط.
وفي
مقابل تصريحات الساكنة والجدل الذي تثيره مسألة حماية البيئة بالإقليم أكد
محمد شفيق مدير معمل إسمنت المغرب أن مؤسسته تشتغل " في إطار احترام
المعايير الدولية الخاصة بحماية البيئة وأنها تنجز٬ عن طريق مختبر مستقل٬
بيانات سنوية حول انبعاث الغازات والغبار من مداخنها وترسله تقاريرها إلى
الوزارة الوصية".
وأكد
في تصريح للوكالة أن منشأته الصناعية تقتني وتستورد قطع العجلات المطاطية
من أوروبا وأن استعمالها يخضع لقانون النفايات وبترخيص خاص من الوزارة
المكلفة بالبيئة موضحا أن هذه المادة غير متوفرة في الأسواق ولا يتجاوز
استخدامها في أفران الإسمنت نسبة 6 في المائة من المحروقات٬ التي قدر
حاجياته منها بنحو 70 ألف طن سنويا.
وأضاف
أن استعمال قطع العجلات المطاطية٬ والتي يعد سعرها أقل بكثير من سعر
البترول٬ يخضع لدراسة ومتابعة لانبعاث الغازات من قبل الوزارة الوصية٬ في
إطار اتفاقية بهذا الشأن بين هذه الأخيرة والجمعية المهنية للإسمنتيين.
وردا
على مزاعم الساكنة المجاورة للمصنع قال شفيق إن مؤسسته التي توفر 150 منصب
شغل قار وأزيد من 450 منصب موسمي وتحقق رقم معاملات سنوي بمعدل 700 مليون
درهم٬ تشغل اليد العاملة من دوار أولاد إبراهيم ومن الدواوير القريبة غير
أنها تضطر إلى جلب الأطر التقنية من خارج المنطقة٬ وقد هيأت للعمال
القاطنين بعيدا حافلات خاصة لنقل المستخدمين.
كما
فند شفيق أن يكون المعمل سببا في ما قد يشكو منه بعض أفراد الدوار من
أمراض لهم أو لماشيتهم أو لقطاعهم الفلاحي مبرزا أن إدارة المعمل حريصة
وفقا للمعايير الدولية على استخدام مصفاة ذات جودة عالية في مداخن المنشأة
الصناعية.
وتأكيدا
لذلك أعلن عن تنظيم أيام الأبواب المفتوحة في نهاية شهر مارس/ آذار القادم
للإطلاع على الأوضاع البيئية والمهنية التي تشتغل فيها هذه المؤسسة٬
متعهدا في ذات الوقت٬ باتخاذ تدابير السلامة اللازمة في نقل وشحن قطع
العجلات المطاطية المستوردة عند شحنها من الميناء إلى المعمل٬ وتجميعها من
الطرقات في حال تكرار تساقطها.
ولئن
كانت تصريحات فئة من الساكنة المجاور أو تصريحات المسؤول عن المعمل
متنافرة في جانبيها الاجتماعي والقانوني فإن وجهة نظر رجل القانون كبناني٬
تسعى إلى تأطير الخلاف حول التنمية في سياق منظومة ثقافية شاملة تكون
قاعدة للجمع بين الاقتصاد القوي والعدالة الاجتماعية والحق في البيئة
السليمة٬ والتي من دونها لا يتأتى الحديث٬ برأيه٬ عن مفهوم التنمية
المستدامة.
فمن
الناحية القانونية يقر كبناني بأن المعمل يشتغل في إطار اتفاقية مع
الوزارة الوصية ويستخدم حاجياته من المحروقات بما فيها قطع العجلات
المطاطية وفق ترخيص منها وبمرجعية دولية خاصة بالشروط التقنية لاستعمال
النفايات.
وافترض
أن المنشأة الصناعية ذات الأصل الإيطالي تشتغل بمقتضى دفتر التحملات
المعمول به في أوروبا٬ والذي يلح على ضرورة حماية البيئة٬ غير أن السؤال
المطروح في هذا الجانب هو مدى التزام المعمل ببنود الدفتر ومدى التزام
الوزارة الوصية بالتتبع والمراقبة.
وأكد
في جانب أخر على أهمية إثبات الضرر الجماعي الذي قد يتطلب تكاليف باهظة٬
موضحا أن إثبات الضرر يتطلب أولا التحليل المختبري للمادة المستهدفة
وثانيا تتبع الحالة الصحية للجماعات المتضررة٬ أو ما يطلق عليه "التشخيص
الوبائي" وقياس نتائج التشخيص والتتبع ومقارنتها بالمعطيات الوبائية أو
المرضية٬ على الصعيد الوطني.
وفي
جميع الحالات فإن الإشكال الذي أثارته هذه الحالة بدوار أولاد إبراهيم
بجماعة أيير قد يعكس الإشكالات المطروحة في عدد من المواقع الصناعية سواء
بداخل الإقليم أو الجهة أو على صعيد التراب الوطني. كما يعكس علاقة هذا
الموضوع بمسألة تنزيل بنود الدستور الجديد الذي يؤكد٬ وفق ما سلف٬ الحق في
الاستفادة من التنمية إلى جانب الحق في العيش في بيئة سليمة.
فالمغرب
برأي كل المتدخلين دخل منذ السنوات الأخيرة منعطفا تنمويا يؤهله لتخطي
الأزمات وبالمقابل لا يراهن أي منهم على اتخاذ خطوات قد تمس روح ما جاء به
الدستور في هذا الشأن٬ ما دام الهدف ينحصر أساسا في تكريس مبدأ المقاولة
المواطنة.
|